الدوائر السياسية الرسمية في واشنطن وسوق الذهب

 

أولاً 

في الدوائر الرسمية في واشنطن كانت الأنظار تتركز مع ذلك على الخزانة. كان وزير الخزانة ضخم البنية متأنقا، وكان تعيينه مثارا للعجب: ديموقراطي في حكومة جمهورية. وهو نقيض نيكسون تماما - كان محاميا جرينا معسول اللسان ومقداما لا يهاب شيئا متسامقا على الرئيس ذي البنية الجسدية المتواضعة. لقد شغل في السابق منصب وزير البحرية وحاكم تكساس. وتظهر صورته الرسمية لدى الخزانة رجلا في أوج سلطانه، جالسا خلف مكتب في غرفة صفراء يغمرها الضوء رجلا مسيطرا واثقاء ذا شعر فضي اللون يرتدي بزة مقلمة، وقد استقرت إحدى قبضتيه على وركه. كان هذا الرجل هو جون بي كونالي John B, Connelly. وكان نیکسون مسحورا به لقد فاجأ نيكسون العديد من المراقبين عندما عين كونالي وزيرا للخزانة في ديسمبر 1970. إذ سبق لكونالي أن شارك في حكومة كيندي، وكان كيندي - بجاذبيته وكفاءته ومهاراته الاجتماعية - قد الحق هزيمة نكراء بنيكسون المرتبك والمضطرب في الحوار المتلفز في العام 1960 على هامش الحملة الرئاسية. لقد كان لكوناتي صلة جلية بحادثة كيندي الغامضة: كان بوصفه حاكم تكساس آنذاك، يستقل سيارة الليموزين الرئاسية المكشوفة عندما تعرض كيندي لإطلاق النار، وقد اخترقته الرصاصة نفسها التي قتلت كيندي. كانت الرصاصة التي أصابت الرئيس قد اخترقت كونالي وأصابته في الظهر.



ثانياً 

 وحفرت صورة كونالي والزوجين كيلدي مضرجين بدمائهم فيما هب العملاء السريون لحمايتهم، في ذاكرة العالم بأسره. ويعتقد كاتب سيرة كونالي أن حادثة الاغتيال عززت سمعة الرجل  . وذكر في أحد فصول هذه السيرة وهو بعنوان الرجل الذي صنعته الرصاصة أن كونالي كان بوفاة كيندي «يولد من جديد. فالرصاصة نفسها التي نفذت عبر جسم كيندي جعلت كونالي شهيدا إلى حد ما، ويعمل على الإفادة من هذا الدور إلى درجة أن صحيفة «بالتيمور سن» Baltimore Sun وصحفا أخرى، ذكرت بعد أربع سنوات من حادثة الاغتيال، بلغة تهكمية في افتتاحياتها أن حامل الذراع السوداء الذي كان الحاكم كونالي مغرما بارتدائها صار باليا كان كونالي الشريك المثالي لنيكسون. لقد أراد الرئيس حلا جريئا للأزمة؛ لكن كونالي لم يبال بماهية ذلك الحل. يقول هربرت شتاين Herbert Stein، الذي عرف كونالي وخيره في أثناء العمل ، والذي كتب وصفا للدراما التي وقعت فصولها في الدوائر المقربة جدا من نيكسون في ذلك الحين إن كوالي كان أمرا بديعا وساحرا ومتحدثا رائعا في التجمعات الصغيرة والكبيرة، وسياسيا من أخمص قدميه حتى راسه».. وهو لم يفرض على الخزانة سياساته الخاصة كانت موهبته تتلخص في عبقريته في تسويق السياسات التي يختارها الرئيس كان يحبذ القول: «أستطيع اللعب بمواربة أو من دونها. 



ثالثاً :

كل ما عليك فعله أن تحدد في طريقة اللعب كان التضخم أبرز التحديات الماثلة أمام الإدارة الأمريكية، إذ كان ارتفاع الأسعار يقوض مستوى معيشة الأمريكيين وكان من بين الحلول الجذرية وضع سقف للأسعار بقوة القانون وربط زيادات الأجور بالقيود نفسها وشعر مستشارو نيكسون الجمهوريون التقليديون بالخجل من هذا التدخل واسع النطاق في عجلة الاقتصاد الحر، ولم يكن كونالي كذلك، وقد ضمت وزارته تكنوقراط) يؤيدون مثل هذه الضوابط. وكان من الطبيعي لرجل يتحلى بإصرار كونالي أن يسعى إلى جعل وزارته رأس الحربة في معالجة أبرز قضايا الساعة. وبرأي شتاين المطلع على بواطن الأمور، فإن نيكسون الذي كان ميالا إلى الاطلاع على عينات من آراء دوائره المقربة شكل مع كونالي تحالفا ثنائيا لصياغة السياسات كان أحد مساعدي نيكسون المقربين إتش آر بوب هالدمان H. R. Bob Haledman. كبير مستشاري البيت الأبيض يعتقد أن نيكسون يهاب كونالي " كان الاثنان يجتمعان وحدهما. وخلص شتاين إلى أن نيكسون عزل نفسه عن المستشارين الأكثر تحفظا، ولربما أراد من كونالي مساعدته على اتخاذ خطوة لم يكن ليتخذها هو نفسه، أو بالتشاور مع مستشاريه المعهودين كانت الإجراءات التي بحثها كونالي ونيكسون ديناميتا سياسيا. 



رابعاً : 

وقد استخدما أزمة الذهب ليضغطا زر التفجير. في ربيع العام 1971، وفي ضوء النمو المتواصل لودائع الدولار خارج الولايات المتحدة، وتزايد حدة التوتر في العواصم الأجنبية التي امتلكت مصارفها المركزية کمیات من الدولار تفوق حاجتها، حزم كونالي ونيكسون أمرهما واتخذا قرارهما. إذا تقدم حملة الدولار الأجانب لصرف ما لديهم غير نافذة الذهب، فسيغلق الأمريكيون تلك النافذة. ومنذ تلك اللحظة لن يكون الدولار قابلا للتحويل إلى ذهب. وفي الوقت نفسه، والأهم من منظور الناخب الأمريكي، ستفرض الحكومة ضوابط على الأجور والأسعار وسيُربط بين السياسات المختلفة، وستسوق تلك السياسات للشعب على أنها تدخل هيكني لمصلحة الأمريكيين عامة، حماية لهم من وطأة ارتفاع الأسعار والممارسات الانتهازية للمضاربين الأجانب، وكان نيكسون يعتقد أنهما سيسوقان تلك السياسات بجسارة تفوّت على المعارضين أدنى فرصة الادعاء عدم الإجراءات الكافية. كانت السرية عاملا حاسما لنجاح الخطة ثنائية الخطوة. ذلك أنه إذا تسرب الخبر، فسيندفع التجار والصناعيون إلى رفع الأسعار مقدما قبل صدور الضوابط الجديدة. وسيحتشد حملة الدولار الأجانب أمام نافذة الذهب. وبدلا من اتخاذ إجراء حاسم استباقي، ستتقوض الخطة إلى عمل دفاعي الهدف منه تحاشي انكفاء الاقتصاد المتعثر إلى الخلف. ولمنع تسرب الخبر أسر نيكسون إلى اثنين فقط من مستشاريه الموثوق بهما بالخطة التي وضعها مع كونالي. ولبضعة أشهر، لم يكن يعلم بخطة الولايات المتحدة لهدم النظام الذي قامت عليه المالية العالمية إلا أربعة أشخاص فقط من الدائرة الضيقة في البيت الأبيض. كان نیکسون بحاجة إلى ذريعة فقط. 



خامساً : 

ومع انقضاء صيف العام 1971 كانت أنظار الأمريكيين منصرفة إلى ارتفاع الأسعار، واتجهت أنظار بقية العالم إلى الدولار الأمريكي. وفي منتصف أغسطس، في أسبوع شهد عمليات بيع مكثفة للدولار أدت إلى دفع قيمة العملة نحو مزيد من التراجع، أوردت صحيفة «الجارديان» البريطانية أن الهمس الدائر حول المستقبل الغامض للدولار قد تحوّل الآن إلى تنبؤات علنية بتخفيض قيمته Devaluation». ومضت المقالة تستعرض الحلول لمشكلة تراجع سعر الدولار والتي يحبذها حملة الكميات الهائلة من الدولار، خصوصا مصرف فرنسا المركزي: كان هذا الحل يتمثل في استردادها ذهبا ثم أشار الكاتب إلى حقيقة تعرفها دوائر الصيرفة جميعها: «ليس ثمة ما يكفي من الذهب في فورت نوكس Fort Knox لتلبية جزء من إجمالي المطالبات المتوقعة لحملة الدولار الأجانب». وبعد يومين كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» في تقريرها عن هجمات المضاربين على الدولار في أوروبا أنه وفقا للاحتياطي الفدرالي تراجع مخزون الذهب النقدي للدولة بمائتي مليون دولار خلال الأسبوع إلى أدنى مستوى له منذ 31 ديسمبر 1935ء وقد فاقمت الحقيقة المرة بوجود سعرين للذهب التوتر على مستوى النظام المالي القائم أصلا رغبة الحكومات الأجنبية القلقة بصرف أرصدة الدولارات المتراكمة لديها، وخشيتها في الوقت نفسه من إشعال فتيل رفض الصرف). وفي منتصف العام 1971 كان السعر السائد في سوق الذهب المفتوحة أكثر بثلاثة دولارات من السعر الرسمي المحدد عند 35 دولارا للأوقية الذي اعتمد في اتفاقية بريتون وودز. وبذلك كان هناك سعران للذهب - واحد في سوق لندن الخاص، وآخر هو السعر الرسمي» الذي يدفع من خلال نافذة الذهب في واشنطن.